من هم صناع القرار الشرعي؟
صفحة 1 من اصل 1
من هم صناع القرار الشرعي؟
إن "القرار الشرعي " الموافق للحق ؛ هو نفسه الذي يطلق عليه علماء أصول
الفقه مصطلح " الحكم الشرعي " ، و حقيقته أنه توقيع عن الله تعالى ؛
سواء أكان ذلك في المستخرَج من دليلٍ ظاهر ، أو دليلٍ يُـحتاج معه إلى
استنباط خاص ، وقد حددت الشريعة أوصاف المؤهلين و حصرت اتخاذ القرار
الشرعي فيهم ؛ بقوله تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر
منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، و قوله ( فاسألوا أهل الذكر إن
كنتم لا تعلمون ) ، ولا أشك أن هذه المقدمة هي من مسلمات باب الفتوى بل
من مباني الشريعة الـجــِـسام، وكان لعلماء الصدر الأول و رجاله مواقف
لا تنسى و آثارٌ لا تطمس ؛ في تهيُّبِـهم من الإقدام على هذه الإمارة و
المنصب الرسالي العظيم ، فمن ذلك :
قول الشافعي : " ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع
لابن عيينة ، و لم يكن أحد أسكت منه على الفتيا " .
وقول الخطيب : " وقل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها ؛ إلا
قل توفيقه ، واضطرب في أمره ، وإن كان كارهاً لذلك غير مؤثر له - ما
وجد عنه مندوحة- وأحال الأمر فيه على غيره ؛ كانت المعونة له من الله
أكثر والصلاح في جوابه أغلب " ا.هـ .
و في المقابل أيضاً ثبتت لهم جدارة منقطعة النظير عند من بُـلي بتولي
إصدار القرارات الشرعية على مضض ، والمقام هنا أوسع من فوهة بركان.
و الناظر إلى الواقع يلتمس أنماطاً متعددة في صناع القرار الشرعي ،
أدونها في الآتي :
1- نمط تعالمي : يلهث وراء الشهرة و تحصيل عواقبها ، أو محبة
التصدر في مجامع الناس ، دون تكامل مكونات طالب العلم التي رسمها
العلماء في المتصدي لإفتاء الناس ، وذلك من خلال توزيع أرقام هاتفه في
كل مناسبة ، و الإجابة عن جميع الأسئلة التي ترده ، بل يستنكف من قول
اسألوا فلاناً ، أو من قول " لا أدري " ، وجناية هؤلاء الأغرار في
قراراتهم على جملة الشريعة معلومة وعقوبة الله في مثلهم مفهومة ، وجاء
في السِّير أن رجلاً رأى ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن يبكي ، فقال : ما
يبكيك؟ فقال : اُستفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم ! قال :
ولَبَعْضُ مَن يفتي ها هنا أحق بالسجن من السراق !.
2- نمط صراعي : فهو في صراع داخلي عنيف ليثبت ذاته بأي وجه وعلى
حساب من كان ، فلا يجد هذا الـمُـلتحف بدثار الشريعة إلا أن يعبر عن
ذاته بالتقاط و نشر الآراء الشاذة ، أو مصادمة مباشرة لفتاوى كبار
العلماء الربانيين ، أو اختيار رأي مهجور والاستماتة دونه ، و هل يكتفي
بذلك ؟ لا أظن ، بل يتجاوز المرحلة ليعقدَ عمليات مقالية استشهادية –
تصريحاً و تضميناً - لتصفية الخصوم ، ولن يطمئن باله إلا بالظفر في هذه
المعارك الدموية بقراراته التي تثبت أنه " هو " !! ، وهنا أتذكر مقولة
حكيم بأحد جدران أزقة مدينة جدة القديمة – بعد أن نفدت محاولاته – بنصف
شطرها الثاني : ( . . . فهذا خط يدِّي فاذكروني ) !! .
3- نمط انتقائي : لا يقبل الحكم الشرعي ابتداءً فيطمئن إليه
ويعملَ
به مباشرة ! ؛ لا ، بل يجعل عقله – الضعيف المتهالك – مشرحةً وميزاناً
لتمرير كل الفتاوى عليه ، فإن صادفت هوى في نفسه دافع عنها وأخذ بها
وصنع القرار الشرعي بنفسه لنفسه ، وبرَّر رأيه بأمور مادية مغلفة بشعار
المصلحة الشرعية و الواقع !! ، وإن خالفت توجهاته فلا أقل من أن يصفها
بأنها : ( نحن رجال وهم رجال ، الآراء تموت مع أصحابها ، لو كان حيا
لتغيرت فتواه ، فيها تضييق على الناس ، أحاديث متوحشة . . . ودواليك )
، ولا يخرج صاحب هذا النمط من إحدى دائرتين :
أ – أنه صاحب وسوسة و شك : فهو مرض ؛ قد يُرجى برؤه .
ب – أنه من أتباع المدرسة العقلانية الإسلامية " لبرالي مسلم !! " : و
خطر هذه الطريقة ظاهر .
4- نمط انعزالي : هو ذو الكفاية الشرعية الذي يرى و يبصر أن
محيطه محتاجٌ إليه ؛ لتغطية الشاغر الإفتائي والإعلامي والدعوي و
التعليمي ، فيصدر قراره الشرعي الخالي من التسريح أو الإحسان !! بالبعد
والعزلة عن ذاك المحيط ، ومستنده في جريمته تلك الزهد عن المناصب أو
الورع في الدنيا ، ولم يدرك أنه قد هيأ فرصة سانحة ليهتبلها غيره من
أصحاب التوجهات والغايات المناقضة ، يا له من ورع بارد ، فلا غرو و قد
قيل : قد يجدُ الجبانُ (36) حلاًّ للمشكلة ، ولكن لا يُعجبه سوى حلٍّ
واحد ؛ هو الفِرار .
5- نمط مشتت : هو من طلاب العلم بل قد يتقلد منصباً شرعياً
كالقضاء أو الإمامة أو الخطابة و غيرها ، ولكنه وليد الحادثة ، خدين
الراحة والدعة ، صاحب تذوق و تصنيف للناس بين ظن و يقين ، يشتغل مرة في
العلم وأخرى في الدعوة ، ومرة في الإفتاء ، ومرة في كتابة المقالات ضد
من يعتبرهم أعداءً ، وفي الإطراء لشخصيات يتجاسر في الدفاع عن حياضها ؛
لأنه تاب على أيديهم ، حديثه إيغال في التفاهات و المباحات ، أهدافه قد
تسلل إليها العجز ، و إن صَدَقت عزيمته تناول مسائل فقهية من صغائر
العلم ليظهر إشغاله المجلس بذكر الله تعالى ، وقد أضفى هذا المشتتُ على
منهجه قرار القـُدسيَّة الحـَــــرَميَّة قولاً واحداً ، ولم يعلم – و
لعله مارس فن التغافل ؟!
- بأن اشتغال القدوات بالجزئيات ، والأمة تُجتَثُّ من جذورها ؛ من أعظم
الخيانةِ لها وللمنهج الربَّاني الذي كُلِّف بحَملِه وتبليغه .
6- نمط تطرُّفي ( غلاة أو جفاة ) : الغالي هنا : هو ذلك المتسلح
بشهادة عليا أو تزكية رصينة ؛ أخذها من مساجدنا و جامعاتنا الإسلامية ،
، ليتجلى له بعد حين – لانفصام طارئ – أن يتخذ قرارا شرعياً مصيرياً
يدخل به الجنة من أبوابها الثمانية ، وتزفه حورها إلى رب كريم ؛ بأنه و
أتباعَه الوحيدون في العالم الذين نزل القرآن ليخاطب عقولهم ، و يخالط
شغاف قلوبهم ، و أنه لا أحقية لبقاء جنس كافر في الوجود ، بل إن البلاد
السعودية – خاصة - بعلمائها و حكامها في نظره الضبابي مرتدون يجب أن
تقام عليهم شعائر التذكية ؛ إما بالتفجير أو التحريض ، فتباً لهم إذ
تنكبوا فكبكبوا وقد قال الله : ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ
نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) .
والجافي هنا : عالم شرعي فقيه ، لا يحفظ من مقاصد الشريعة إلا يسروا
ولا تعسروا ) و قول الناظم ( ومن مقاصد الشريعة التيسيرُ . . .) ، يطير
قلبه فزعاً عندما يشاكسه من أفتى له بخلاف ما أراد في سؤاله ، همه
الأكمل كسب ود الجميع ، وكأن ضميره المحتضر لا يعي أن خالق الناس هو
أرحم بهم منهم ؛ إذ هو من أحل و حرم ، و إذا قدم له النصيحة مشفقٌ بادر
بجوابه كالمستنكِر الثائر ؛ ألم تسمع قول الثوري : " العلم أن تسمع
الرخصة من ثقة، أما التشديد فكل يحسنه " ، فيا لها من خيانة ،
وأحطه من تقرير .
7- نمط الراسخ : هم العلماء الذين
ثبتت أقدامهم في مسائل العلم ، قدوات في أقوالهم وأعمالهم ، صدورهم و
ورودهم من كتاب و سنة ، وكلاء وأمناء الله على دينه و وحيه ، يقول
العارف العالم ابن القيم : (فقهاء الإسلام ، ومن دارت الفتيا على
أقوالهم بين الأنام ، الذين خصوا باستنباط الأحكام ، وعنوا بضبط قواعد
الحلال من الحرام ، فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي
في الظلماء ، حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب ،
وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء ؛ بنص الكتاب: ( يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، هؤلاء هم صناع الحكم والقرار الشرعي ؛
الدائر بين الأجر والأجرين .
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى